Loading ...

لأنه كل قصة مهمة ..

البحث

فدوى روحانا عينٌ حسّاسة تطرق على الأبواب

– منذر جوابرة –

يمكن وصف الصورة بأنها زمن ثابت للضوء وما يحتويه من عناصر أمام عدسة الكاميرا، والتي قد تتحول لأعمال أيقونية، تعكس أبعاداً تاريخية واجتماعية، وهي تساهم اليوم بشكل كبير في السياسات الثقافية كما في فلسطين، التي تعد مكاناً نمطياً للصورة السياسية يتم تسويقها في العالم دون الانتباه أحياناً للقيمة الجمالية أو الإبداعية في الصورة، بالرغم أن كلا القيمتين يتجاوزا الحصار السياسي والإعلامي والأمني.

ننظر للصورة على أنها ومضة ثابتة للحظة (الآن)، تتحول إلى زمن عبر تكرار اللحظات، لتحرر ذاتها إلى زمن متحرك ينشأ فيه صراع الزمن واللحظة ويدفعنا للنظر إلى الصورة عبر تأويلات عديدة تختلف من وقت لآخر ومن مكان لآخر، وهذا ما أشار له غاستون باشلار في كتابيه “حدس اللحظة” و”جدلية الزمن” عن مفهومي الزمن واللحظة، والتي يمكن تلمسها في أعمال المصورة الفلسطينية فدوى روحانا عبر علاقتها مع اللحظة وقت التقاط الصور، وقدرتها على خلق حركة وطاقة داخل العمل الذي يستطيع نقل الإحساس نفسه الذي تكوّن في اللحظة منذ نشأة الصورة وحفظها في ذاكرة الكاميرا إلى وقت طباعتها ومن ثم مرور الزمن عليها لتقبض باستمرار على نفس قيمة الشعور بين اللحظة مع الزمن.

تأثير المكان على مفهوم الصورة

من النظرة العامة يمكن تأويل الصورة ببعدها الدرامي المسرحي في فوتوغرافيا روحانا (الشكل 1)، وقدرتها على التحرر من النمطية الفوتوغرافية التي عادةً ما تنشغل بالضوء وهوامشه من عناصر تحيط بمركز الصورة، والاعتماد على تسجيل المشهد بثبات، استطاعت الفنانة أن تثير الدهشة في طاقة الحركة نفسها داخل الإطار (framing)، والتأكيد على قوة الوجود في العمل الفني عند جاك دريدا رغم استحضار الخيال وعلاقته بالواقع كرومانسية درامية تحيلنا لمشهدية الفقد وطقوس احتفائية أضفت بعداً جمالياً باللونين الأسود والأبيض؛ هنا يتم تناول الصورة بمعزل عن المكان، فيبدو هذا التلامس الدرامي بين نموذجين لنفس الفنانة (الإنسان والطبيعة)، اللون، الإحساس بالطبقات المركّبة أو الشفافية على الصورة، باحثة عن أسلوبها الخاص، الذي يعتمد على الحركة غير الثابتة للمشهد.

بإعادة النظر لعمل روحانا، وافتراض أن المكان ذا قيمة أساسية في صورتها، حسب إيمانويل كانط في كتابه “نقد العقل المحض” تصبح الذات مفهوماً حيوياً لتعريف المكان، وموضوعاً للصورة الثابتة للمتلقي الذي يفهم المكان والزمان كصور من قوى الذهن الناتج عن العقل والفهم والحساسية عند الإنسان. وبذلك يمكن القول أن هذه الصورة في فلسطين، مدينة بيت لحم، كنيسة المهد.

هذه القيمة المكانية تعيد تفكيك الصورة بمعزل عن فضائها الواسع والعام، إلى خصوصية تفرض واقعاً سياسياً واجتماعياً في فلسطين، وهذا يجعل نظرة المشاهد للصورة تختلف تماماً ويتفاعل مع الصورة/ العمل الفني بشكل عاطفي لا جمالي. 

يختلف مفهوم الصورة في فلسطين من الخارج غالباً؛ فيهيمن عليها بعد سياسي كموضوع بغض النظر عن دوافعه وتقنياته، وقد تناول كل من جيل تولوز وميشيل فوكو وجاك دريدا الأبعاد الفلسفية في تحليل الصورة والوسائط المستخدمة وصناعات الهيمنة التي تفرض سطوتها على المشاهد، باعتماد سياسيات محددة لعملية تلقي الصورة؛ فمثلاً نستطيع إطلاق حكم مطلق على الصورة التي نشاهدها من أفريقيا مهما كانت مختلفة أو متنوعة، ويتم التفاعل مع الصورة بطريقة غير محايدة تسيء إلى تاريخ المكان بعد أن ساهمت (الميديا) الاستعمارية الموجهة بشكل كبير على ذلك، وفي العصر الحديث نجد أن التكنولوجيا بالرغم من توقع انفتاحها، قد اسهبت هي الأخرى في رسم سياسيات منغلقة كما أطلق عليها “ريجيس دوبريه” بما أسماه “الميدولوجيا”.

العين الحساسة تخترق الجدران..

تبحث ممارسة روحانا في التدهور السياسي واستكشافه من الفضاء العام، لأماكن مهجورة، صامتة، لبيوت يشير حالها السيء إلى تدخل الطبيعة ما أفقدها الحيوية والحضور، بيد أن ضعف الضوء وقوة الظل، وحفاظها على اللونين الأبيض والأسود يوحي بالبرود المتسلل إلى نوافذ الغرف، والسقف الساقط من البيت في الشكل (4)، عبر هذه الحساسية المفرطة في تناول الصورة.

نعيد تحليل الصورة بالمنظور الفلسطيني للمكان، فتحيلنا إلى دلالة سياسية، وما تحملها من رموز نضالية في ثبات المكان حتى وإن كان خراباً أو مدمراً أو مهجوراً كما في البيوت الفلسطينية للقرى المهجّرة في مناطق فلسطين 1948؛ فيصبح للصمت قيمة، ويتحول البيت المهجور رمزاً للصمود، وهنا يبدو بحث روحانا أكثر بروزاً في تحليل تأثير الاحتلال على المكان وحضوره (المكان) مع حاضره.

الممارسات التقنية للفنانة فدوى روحانا تدعم هذه التصورات عبر معالجاتها الضوئية، والصور الرقمية التي تتلاءم مع الأعمال كموضوعات يطغى عليها الاغتراب والسكينة منذ زمن طويل.

السيميائية والتمثيل في الصورة الأرشيفية 

بالعودة للصور الفلسطينية منذ بداية الانتداب البريطاني في فلسطين 1922، مروراً بالتحولات الاستعمارية وحتى منتصف تسعينيات القرن العشرين، حافظ اللباس الفلسطيني على قيمته الرمزية والتاريخية، وتعزيز الهوية الوطنية والقومية، كما عكست الفروق الطبقية بين فئتي المدنيين والفلاحين، وقد استطرد الباحث الفلسطيني ساري زنانيري في بحثه ” الدبلوماسية الثقافية الأوروبية والمسيحيين العرب في فلسطين، 1918-1948″ في مقاربة مسألة التقسيم الطبقي من خلال لباس أهل القرى والمدينة، بحيث يتم تحرير الصورة من قيمتها الإبداعية أحياناً والتعامل معها بسياق اجتماعي وثقافي، وهذا ما تهدف له الصورة بشكل عام في اهتماماتها التوثيقية والتعريف بالثقافات ونشرها.

ومن خلال توظيف مفاهيم السيميائية والتمثيل في صورة الفنانة فدوى روحانا في الشكل (5) فإن الصورة تنتقل هنا من الصور المتخيلة والتقنية الفنية إلى صورة تفرض شكلاً كلاسيكياً في بنائها البصري، وتستعرض نفسها كصورة أرشيفية يمكن قراءتها بالمستقبل والحاضر والماضي، نظراً لخصوصية الصورة وتحديداً في شوارع بيت لحم التي تؤكد على الصيرورة الإنسانية وقدرتها على خلق تمثلات تعكس صورة الواقع الاجتماعي وقدرة الناس على التكيف إثر التحولات السياسية التي تبرز الهوية الوطنية أحياناً، وبالموازاة الزمنية مع الفعل التوثيقي يمكن ملاحظة ثبات الهوية التراثية في ثياب النساء والتي يبدو من طبيعة التطريز أنهنّ ينحدرن من مناطق بيت لحم والخليل، ولا شك بأن هذه الصور لو تم تناولها في المستقبل وإعادة قراءتها، ستميل نحو تأويلات عديدة خاصة في ظل الفروقات الثقافية التي تعكس غنى الأزياء وتنوعها بين فئات عديدة من المجتمع الفلسطيني، وسيكون السؤال كيف يمكن تحليل حركة النساء وهنّ يحملن على رؤوسهن سلال الخضار، ونحن نعلم اليوم أنهنّ يذهبن لتسويق منتجاتهن، بينما في القراءة المستقبلية سيكون الاعتقاد أنهنّ يتسوقن لبيوتهن، وسيبدو من الصورة أن التأخر الحضاري يطغى على المدينة لقدرتها على تحديد مكان مفصول عن الحركة الطبيعية لشوارع المدينة وازدحامها وفوضاها بين المارة والسيارات وسائقي الدراجات، وهذا يؤكد بدوره أن الصورة مهما حاولت أ٫ تنقل وتوثق الحياة الطبيعية فإنها ستظل قاصرة على جمع كافة المعلومات، لذلك يكون دراسة المجتمعات عن طريق مجموعة من الصور تستكشف كافة تفاصيل الحياة في كل منطقة دون الأخرى. 

يبدو أن الصورة تتحول من وظيفة وحرفة وظفت البعد التقني في التعامل مع آلة التصوير، إلى البحث عن الصورة (المرتّبة) التي تهتم بالهوامش والتفاصيل كجزء حيوي من موضوع الصورة، والابتعاد عن تناول الصورة الشعبية بالمعنى النمطي مما عكس قيمتها كصورة أرشيفية، والتي ربما تُستعرض بتعمق من أجيال لاحقة في اعتقادٍ منهم أن خلفيات الصورة من عناصر الطبيعة ومباني كانت مقصودة، لكننا نستطيع اليوم أن نجزم أنه أمر عادي لحياة عادية وثقافة شعبية في مكان عام. 

تم استعراض هذا العمل للتعريف بوظيفة المصوّر ودوره الفني والثقافي والإبداعي بين موضوع التفرغ التام للعمل الفني، أم يكون على الفنان دوراً اجتماعياً في التعبير عن القضايا الاجتماعية والإنسانية.

الشكل (5)

فدوى روحانا مصورة فلسطينية من مواليد حيفا، تعتبر الفنانة أن العدسة هي النافذة التي تحاول من خلالها التفكير في الحياة ومعناها، وكيف يعيشها الناس، لتنقل آمالهم ومصاعبهم، وعلاقتهم بمكانهم وبيئتهم، وماضيهم مع واقعهم. حيث تحاول فهم التجربة الإنسانية بأكملها وإيجاد مكانها بداخلها. تم عرض أعمالها في العديد من المجلات والمنصات الدولية للفنون الجميلة والتصوير الفوتوغرافي، وحصل مشروعها “ركاب في الوقت المناسب” على الميدالية الذهبية في الفنون الجميلة – التصوير المفاهيمي من قبل “جوائز إن دي” 2019.

-منذر جوابرة: فنان بصري، بيت لحم، فلسطين-

logo

منصة رقمية تسرد قصصا مصورة عن حياة الفلسطينيين


سياسة ملفات الارتباط

بالنقر فوق "السماح للكل" ، فإنك توافق على تخزين ملفات تعريف الارتباط على جهازك لتحسين التنقل في الموقع ، وتحليل استخدام الموقع ، والمساعدة في جهودنا التسويقية. عرض تفاصيل ملفات تعريف الارتباط.

لا تسمح إسمح للجميع
×