Loading ...

لأنه كل قصة مهمة ..

البحث

غزة … وزمن الاستديوهات الجميل

نوستالجيا الماضي وتسارع الحاضر

غزة- دعاء شاهين

حين ينتابنا الحنين، نراجع ألبومات صورنا الفوتوغرافية المطبوعة، فنسافر طوعًا إلى زمن الماضي الجميل، حيث كان التصوير التقليدي المعروف داخل الاستوديو وسيلة لتخليد اللحظات الجميلة ومشاركتها مع من نحب .

أتذكر تماماً عندما كنت أنتظر بلهفة حصولي على صورتي الفوتوغرافية المطبوعة، بعد  كل جلسة تصوير داخل استديو العم ” غسان” المشهور آنذاك في مخيم جباليا حيث أقطن، فكانت تصحبني والدتي أنا وأشقائي الثلاث لتصويرنا في كل مناسبة اجتماعية، تخليداً لذكراها ولإرسال بعض منها لخالتي التي كانت تقيم بالبحرين لتعرفها بنا مرفق على ظهرها رسائل محملة بالمحبة والاشتياق

العم “غسان” مصور فوتوغرافي لقرابة 34 عامًا، كان يلتقط صور للناس خلال مناسباتهم الاجتماعية والوطنية، وحياتهم اليومية بالمخيم لا سيما خلال فترتي الثمانينات والتسعينات وتجميعها في ألبومات للذكرى، لكن مع انتفاضة 1986، بدأ التصوير يأخذ منحنى آخر وبدأ بتوثيق المواجهات الشعبية بين الشباب الثائر وجنود الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي جعله يتعرض للملاحقة والضرب والاعتقال الاداري من الاحتلال الاسرائيلي 

وجاء اليوم المشؤوم الذي كان يصور فيه العم مشهد اقتحام منزل أحد الشهداء بالمخيم، وفجأة بدون سابق إنذار قصفت طائرات الاحتلال  المخيم بقذيفة مباشرة مما أدى لإصابته بجروح خطيرة في بطنه كادت أن تودي بحياته

وكان الجنود يقتحمون الاستديو بانتظام ويتسببون في تكسير الكاميرات، مما دفعه للتفكير في ترك عمله، بسبب استهداف الاحتلال الإسرائيلي المستمر للكاميرا كونها عدوهم الأول، ورغم جميع محاولات الاحتلال لإيقافه  إلا أنها باءت بالفشل

استمر العم غسان في مهنته حتى عام 1994 ولكن مع حلول العصر الحديث انتقل الاهتمام للتصوير الرقمي، وذلك أثر على الاستوديوهات التقليدية، وجعل بعضها يغلق أبوابه والبعض الآخر يصارع من أجل البقاء، تبعاً للحالة التكنولوجية، الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية التي يمر بها قطاع غزة

وفي جولة أخرى داخل أحد أحياء غزة القديمة، وجدت استديو “كوداك” لصاحبه إبراهيم حندوقة، الذي لا يزال مستمر بعمله منذ أكثر من 40 عاماً، رغم اقتصاره في الوقت الحاضر على معاملات تصوير البطاقات الشخصية ” الهوية” وجوازات السفر.

لكن استطاع بأن يحتفظ بإرثه بشكله القديم الذي يشبه البلاتوه السينمائي، مجهز بإكسسوارات التصوير من المراية ومشط التسريح وألعاب وكرسي للأطفال، وخلفيات طبيعية للتصوير بالإضافة لبعض ألبومات صور يكسوها الغبار، وكاميرات قديمة كان يستخدمها في تصويره.

وعن سبب وجود الاستديو لهذا اليوم فهو مرتبط بالذكريات الفوتوغرافية الودية التي كانت بينه وبين الزائرين، فالكاميرا لم تكن بالنسبة له مجرد آلة تصوير، أو كبسة زر لالتقاط صورة معينة، فكل شخص له حكاية وكل موقف له ذكرى وثقته الكاميرا .

ويعبر العم إبراهيم بأن التطور التكنولوجي في مجال التصوير الفوتوغرافي لا يمكن إنكاره، إذ يمتلك التصوير الحديث سحره الخاص ولكن في نفس الوقت، يؤكد على جمالية التصوير التقليدي، حيث كانت هذه الصور تثير اللهفة في نفوس الناس عندما كانوا يستلمونها بعد مرحلة التحميض التي كانت نتائجها تظهر بعد أيام مما يجعلها تجربة مميزة ومنتظرة بفارغ الصبر، وهو يفتقد اليوم لهذه الهالة الخاصة التي كانت تحيط بهذه الصور القديمة 

رغم جمالية العمل الفوتوغرافي في تلك المرحلة، إلا أنه كان هناك توازنٌ هش بين الجمال والتحديات أبرزها يتعلق بالفقد، عندما يسمع خبر استشهاد روح عاش معها لحظات فريدة عبر عدسته، محاولًا تسجيل تفاصيل حياتها وأجزاء من هويتها، هذا التبديل المفاجئ من واقع حياة معروضة أمام عدسته إلى واقع تفاصيل تظل محفوظة في الصور كذكريات تخلق نوعًا من الاستنكار والحزن.

لعل من يسمع تجارب المصورين القدامى يلمس الحسرة في نفوسهم وترحم معظم على حياتهم الفوتوغرافية القديمة، لكن في ذات الوقت يظهر على الجانب الآخر انتعاش لحالة المصورين الجدد الذين يعتمدون على جلسات التصوير الخارجية المتنقلة بالفضاء الرحب، وفقا لتلبية رغبات الغزاويين في اختيار توثيق مناسباتهم، ولكل مصور منهم تجربته الخاصة.

من هنا يروي لنا المصور محمود أبو حمدة 

” قبل 13 عامًا، في حديقة منزل جدة، قام بالتقاط صورة بسيطة باستخدام هاتفه المحمول Nokia N73. 

وهنا ظهرت على ملامحه أنه لم ينسى تفاصيل ذلك اليوم، حيث كان ينتظر بفارغ الصبر العودة إلى منزله ونقل الصورة إلى الحاسوب لرؤيتها بشكل أكبر فهو لم يكن لديه أي تخيل عن الذي سيحدث له مستقبلاً

قرر بعدها استكشاف عالم الكاميرات الرقمية والتجارب المختلفة وبحث عن العديد من المصادر ليتمكن من تجربة كل نوع من الكاميرات، حتى وإن كانت بحجم أكبر من هاتفه المحمول وقبل أن يمضي وقت قليل، امتلك كاميرا متغيرة العدسات من نوع K IKON D80 وبدأت رحلته في البحث عن الضوء والألوان، وبدأ بالتصوير لكل ما ينبض بالحياة والجمال.

في عالم يتسارع فيه الزمن بمرور كل لحظة، ترتبط حلاوة الحياة اليومية بالقدرة على التأقلم مع تطورات الزمان والتقنية وفي هذا الإطار يبرز التطور الرقمي والسرعة، كلمتين تلخصان جوهر التحولات الجذرية التي أعادت تشكيل عالم التصوير الحديث، فلم تكن يوماً تكنولوجيا التصوير حاضرة بقوة في حياة البشر كما هي اليوم 

فالتقنيات الرقمية تخترق كل جانب من جوانب حياتنا، والتصوير لم يكن استثناءً  بل جعل من الممكن التقاط اللحظات وتوثيقها بجودة  مذهلة دون الحاجة إلى معدات معقدة أو التخطيط المسبق أو الانتظار لأوقات مناسبة للتصوير، كل ما عليك هو الضغط على زر الكاميرا أو الهاتف المحمول والتقاط لحظاتك المفضلة وتوثيقها فور حدوثها في أي وقت وأي مكان 

وفي هذا السياق، لا يمكن تجاوز دور مواقع التواصل الاجتماعي، إنها الساحة التي تتيح للناس التعبير عن أنفسهم ومشاركة أجمل لحظاتهم بكل سهولة، وتُعزز هذه المنصات الاستعراض الفوري للصور، وتشجع على تبادل الإبداع في عالم يشتاق للتواصل.

ومع مرور الزمن، تبدو الصورة كأداة توثيق تحمل قوة في التأثير على حياتنا اليومية، خصوصاً على جيل Z الجديد الذين يجمعون بين سرعة التصوير والتنوع في الوجوه والمشاهد التي يلتقطونها.

مع ذلك، ينبغي لنا أن نواجه الحقائق النفسية التي تحكم علاقتنا بالتصوير إن تركيزنا على التصوير باستمرار واعتمادنا على الصور كوسيلة لتخزين الذكريات يمكن أن يؤثر على تركيزنا وتجربتنا للحظات وقد تتحوّل الصور من أداة للتذكير إلى أداة للاستنساخ، حيث نعتمد على الصور للإشباع الفوري، متناسين تمامًا قوة الذاكرة والتأثير العميق الذي تحمله اللحظات عندما تتم تجربتها بكل تركيز وانغماس

وفي الختام إن العبور بحذر في هذا العالم المتسارع يتطلب توازنًا بين التكنولوجيا والواقع، يجب أن نحترم تاريخنا وتجربتنا العاطفية مع الصور، وفي الوقت نفسه، نستخدم التكنولوجيا لتعزيز وتحسين تجربتنا دون أن ندعها تحتل مكانها الحقيقي.

logo

منصة رقمية تسرد قصصا مصورة عن حياة الفلسطينيين


سياسة ملفات الارتباط

بالنقر فوق "السماح للكل" ، فإنك توافق على تخزين ملفات تعريف الارتباط على جهازك لتحسين التنقل في الموقع ، وتحليل استخدام الموقع ، والمساعدة في جهودنا التسويقية. عرض تفاصيل ملفات تعريف الارتباط.

لا تسمح إسمح للجميع
×