ثلاثة مشاهد من الذاكرة لحكاية فلسطين
لحظات في تجربة توثيق نسائية
جنان عبده – الداخل المحتل
“نحن نُصرِّخ دائماً في سماء الزمن، لنؤكد أن المعركة على التاريخ هي معركة ملحميّة على الحق. معركة تتجدد كل يوم، حيث نواجه بكل إصرار وقوة المحاولات الدائمة لمحو وجودنا وطمس تاريخنا وذاكرتنا الجماعيّة وتشويه هويّتنا الفلسطينية،نستخدم وسائط متعددة كأدوات حيّة للتوثيق، بهدف الحفاظ على ذاكرتنا الجماعيّة الثريّة والتأكيد على تاريخنا العريق وروياتنا التاريخيّة.
الصور تكون لنا شاهداً حيّاً على الأحداث واللحظات التي مررنا بها توثق اللحظة كما هي. تسجل الكاميرا لنا الوقائع بدقة وصدق، وتجعلنا نستعيد ذكرياتنا ونشاهد المتغيرات والتحولات مع مرور الزمن. الفيديو، بمقاطعه الحيّة، يعكس الأصوات والحركات والعواطف بأقصى وضوح. والفنون المرئية تتيح لنا تجسيد الذاكرة بألوان وأشكال تأسر العين وتلمس القلب.
في هذه المقالة، استعرض ثلاثة أساليب من رحلتي في توثيق الشهادات النسائيّة الفلسطينيّة التي قمت بها من خلال تجربتي في جمع الحكايا والتاريخ الشفوي، إن التوثيق ليس فقط عمليّة تسجيل وحفظ، بل هو تحفيز للوعي والحفاظ على الهوية وترسيخ الحقائق. هذه التجربة التوثيقيّة للنساء الفلسطينيات تجسد بقوة مدى إلتزامنا بالصمود والثبات على الحق والعدالة.
كحقوقيّة، باحثة وناشطة نسويّة فلسطينيّة، كانت رحلتي تسليط الضوء على هذه الأصوات القويّة والملهمة والبحث عن تلك التي لم يتم توثيقها ضمن الكتب والحكايا واستحضارها من جديد واعطاؤها حقها كجزء من هذا التاريخ. بدأت رحلتي عام 2005 البحثيّة بجمع الشهادات والوثائق النسائية التي تروي تلك الفترات المفصليّة في تاريخ شعبنا. كانت هذه الوثائق شاهداً حيّا على صمود المرأة الفلسطينيّة ودورها البارز في بناء الهويّة والتاريخ الفلسطيني وخصوصا في فترة الانتداب وأحداث النكبة . مع مرور الزمن يغيب من حملوا الرواية والذاكرة ويبقى ما وثّقناه وحفظناه شاهدا على راويتهم وعلى التاريخ.
” أنا زهرة الأقحوان “
الكتابة عن العمل الكفاحي النسائي المسلح جوهرة نادرة ومعلوماتها ضبابية الوضوح تختلف من مصدر إلى آخر، واقع يعكسه تعريف تنظيم ” زهرة الأقحوان” الذي انطلق في يافا عام النكبة، فمنها من اعتبره تنظيمًا قام بتقديم المساعدات الطبية للمقاتلين، وأخرى كجمعية قامت بحمل السلاح. ، وما يزيد من هذا التعقيد هو تباين المصادر حول تأسيسه هل كان تجمعًا من الرجال والنساء، أم أنه تألف فقط من النساء، ويلقى التاريخ أيضًا ضوء متباينًا على هويّة مؤسسيه ودور الأختين مهيبة وناريمان خورشيد
تلك القصص الواقعية تظهر لنا غموضًا لا ينكره التاريخ، لكن هذا الغموض لم يستمر طويلاً، فعندما وصلت لنا أخبار في عام 2008 بأن ناريمان خورشيد، مؤسِّسة “زهرة الأقحوان”، تقطن في القاهرة، اتخذنا قرارًا غير متردد بالانطلاق إليها أنا وصديقتي رنين جريس، الباحثة في مؤسسة “ذاكرات” لإجراء مقابلة معها بالصوت والصورة.
ناريمان خورشيد ” أنا زهرة الأقحوان ”
نسقت السيدة آمال آغا وهي باحثة فلسطينية من سكان القاهرة موعد المقابلة مع المناضلة ناريمان في منزلها،
وعند لقائها أكدت لنا أنها تعاني من وعكة صحية، وعلى الرغم من ذلك وافقت بكرم على لقائنا وأبدت تأثرها من كوننا فلسطينيات من أراضي عام 48 المحتلة، جئنا لمقابلتها خصيصاً وهو ربما الأمر الذي جعلها توافق على تسجيل المقابلة فيديو، وقد يكون تقدمها بالعمر ورغبتها في توثيق صوتها وصورتها سبب آخر لترك بصمة تاريخية لا تزول ابداً.
وعندما تحدثنا معها عن “زهرة الأقحوان” ببساطة أجابت ” أنا زهرة الاقحوان”، وبفخر وجرأة فدائية، استجابت لاستفساراتنا حول نشاطاتها، وأوضحت لنا أنها كانت تخوض الجبهة بنفسها حاملة السلاح بيديها الناعمة، حيث كانت هذه الكلمات تعكس تصميمها واستعدادها للقتال من أجل القضية الفلسطينية، وأكدت على وجود رجال في التنظيم، وهذا يلقي الضوء على تضافر جهود الجميع في سبيل تحقيق أهدافهم.
الذاكرة التي حملتها ناريمان كانت كأنها لوحة فنية مرسومة بتفاصيل واضحة في بعض الجزئيات وغامضة لا تريد الحديث عنها في أخرى، فمن خلال حديثها فهمنا أنه منذ انتقالها للعيش بمصر وزواجها تتجنب طرح أمور سياسية قد تضرها وعائلتها وركزت على تربية أطفالها وتعليمهم
المقابلة استمرت قرابة الساعة ونصف تحدثت فيها عن “حادثة المنشية ” التي قتل فيها عشرات الشباب وكانت فارقة في حياتها وتأسيس ” زهرة الأقحوان”، وشاركتنا ناريمان مقتطفات من جرائد ومجلات قامت بالاحتفاظ بها لتفتخر دائماً بأنها أول امرأة تقود طائرة بعد انتقالها إلى مصر عقب النكبة، حيث تعلمت فنون الطيران وانضمت إلى سلاح الحربية.
وعندما سألتها سئلت إذا ما كانت تقود سيارة، ضحكت وردت بأنها لا تقودها، وقد بدأت في تعلم القيادة لكنها تعرضت لحادث ثم قامت بشرح أن القيادة في الجو أسهل بالنسبة لها، حيث ليس هناك مفاهيم معقدة مثل الدوران يمينًا أو يسارًا، بل يمكنها الطيران بكل سهولة وحرية.
” لبيبة “
بعد سبعة عشر عاماً من مقابلتها عثرت مجدداً على ” لبيبة “
في مكتبتي خلال يونيو 2022، وبينما كنت أبحث في أرشيفي، كانت هناك كاسيتات تحمل في طياتها مقابلات أُجريت مع نساء فلسطينيات قرويات ملهمات عام 2005، والتي كانت جزءً لا يتجزأ من بحثي المعنون بدور النساء الفلسطينيات، ومن بينهم تميزت مقابلة “لبيبة خطيب – أم محمد”، وقد سجلت في 19 أكتوبر من نفس العام في مدينة مجد الكروم، عبّرت فيها عن حكايتها بكل عمق، وترجمت كلماتها إلى سطور بقلمي الخاص.
وبعدما استرجعت روعة تلاقي الأقدار تذكرت أن ابنها د. محمد كان زميل لي في الدراسة وهو الذي قام بترتيب المقابلة مع والدته، وللحظة تذكرت أيضاً أن ديمة رفيقة ابنتي هدى هي ابنة أخته، مما يعني أنها جدتها من جهة الأم، وبعدما شاركت الصورة والتفاصيل مع ديمة ووالدتها، أُظهرا انفعالًا غريباً، إذ لم يكن لديهم أي علم بهذه المقابلة وقررا أن تُسمعا الجدة التسجيل.
أعطيت ديمة الكاسيت على أن تعمل منه نسخة، ولكنها واجهت تحديًا في العثور على آلة تسجيل “السماعة” حيث يندر وجودها مؤخرا كانت نادرة في تلك الفترة، أخيرًا، نجحت ديمة وعثرت على واحدة يوم 11 تموز 2022، وطلبتُ منها تصور فيديو بهاتفها لمحادثتها مع جدتها حين تسمعها المقابلة لكي أتمكن من الحصول على نسخة منها
وما أن بدأت “لبيبة” بسماع المقابلة بعد 17 عامًا من تاريخها، تمكنت الكلمات من إيقاظ ذاكرتها وبدأت تسترجع الأحداث المؤثرة التي عاشتها وقت النكبة والقتل الجماعي والتهجير إلى لبنان والعودة إلى فلسطين، والتعليق عليها ومشاركة أفراد العائلة تفاصيل ما جرى في تلك الفترة.
تأثرتُ بشدة عندما شاهدت الفيديو، فقد كانت هذه التجربة مؤثرة للغاية بالنسبة لي، وهذا ما جعلني أشارك معكم جزءًا من مقابلتي معها بموافقة ابنها، لتكون هذه القصة جزءًا من الحكاية الأكبر.
” بقايا وطن “
معرض ” بقايا وطن ” صور ورسومات تروي تاريخنا
بدأت بتصوير القرى والمدن المهجرة وما تبقَّى من الأماكن التي فقدت سُكانها، ولم أكن أول من يصور هذه المشاهد، ولكني تفردت في رسمها ومع كل لوحة رسمتها ازدادت لديّ رؤية حجم الكارثة التي ألمّت بوطننا وتحويله إلى أنقاض متناثرة هنا وهناك، وتشويه طبيعته وإخفاء جمال زهوره وأشجاره خلف شجيرات الصنوبر التي زُرِعَت لتنمو وتغطى الجريمة التي حلّت بأحزان الوطن.
عُرضت لوحاتي في مؤسسة الأسوار الثقافية بمدينة عكا، في شهر مايو الماضي 2023 بالتزامن مع يوم النكبة، في معرض فردي أطلقتُ عليه اسم “بقايا وطن”، في تلك اللحظة لم يكن ببالي أن المعرض واسمه سيحظيان على هذا القدر من الاهتمام، بما في ذلك وسائل الإعلام والقنوات الفضائية.
ولم يتردد الكثيرون في سؤالي عن سبب اختيار هذا الاسم، لم أخطط وأنا التي لم أفكر في الاسم مسبقًا أن تحمل لوحاتي مجتمعة هذا الاسم، ولكن عندما بدأت في رسم صور بقايا كل قرية ومدينة، الواحدة تلو الأخرى ووضعتها بجانب بعضها البعض، رأيت صورة شاملة للوطن المسلوب وما تبقى منه.
كان لافتًا أن هذه اللوحات القائمة على المأساة والحزن لم تخلُ من الأمل والجمال، فكانت الأزهار والأشجار تزيّن اللوحات كأنها رمز للحياة التي تتجدد وتستعيد عافيتها، وتمكنت النباتات من النمو في بيئتها الأصلية، حيث اندمجت بين مفاصل الصخور وتسلقت أكوام الأحجار التي تبقت من أطلال البيوت المدمّرة، مما أضفى عليها مناظر طبيعية جميلة ومؤثر ورسالة قوية حول إرادة البقاء والاستمرارية رغم الألم
فيما يلي مجموعة من الرسومات والصور التي التقطتها لقرية برعم